عند إجراء المفاوضات، ينبغي أن تفكر فيما إذا كنت ستقّدم التنازلات الواحد بعد الآخر، أو كنت ستحاول التوصل الى اتفاق بجمع التنازلات دفعة واحدة، وتقديم عرض إجمالي. ويبشر تقديم التنازلات الواحد بعد الآخر بأنك ستحصل على أقصى قيمة في مقابل التنازلات التي تقدمها، كما يزيل الخوف من التنازل عن شيء بلا داع أثناء عملية التفاوض.
ولكن السلسلة الطويلة من العروض والعروض المضادة حيث يتنازل كل طرف بعناء عن عنصر ثانوي بعد الآخر يستهلك الكثير من الوقت ، كما يؤدي الى ظهور الإحباط والعداء الذي يمكن أن يوقف المفاوضات تماما. إن التنازل عن العناصر الواحد بعد الآخر يمكن أن يتركك أيضا محاصرا إذا وصلت الى نقطة لم يبق لديك فيها سوى القليل الذي يمكن التنازل عنه، ثم أخذ الطرف الآخر بالضغط عليك لانتزاع مزيد من التنازلات ، وعلاوة على ذلك فعندما يقدم العرض تلو الآخر_ مع إدخال قدر بسيط من التحسينات كل مرة_ سيكون من الصعب أن تقنع خصمك بأن البئر قد نضبت. وعلى العكس من ذلك فإن العرض الإجمالي يتيح لكلا الطرفين تجنب ضرورة التعامل مباشرة مع النقاط الإشكالية الفردية الموجودة في موقف كل منهما.
إن كيفية استمرارك ستُحدد في فترة مبكرة من المفاوضات على أغلب الأحيان ،فإذا كان العرض المبدئي للطرف الآخر يقترب نسبيا من هدفك التفاوضي، فلابد أن تكون قادرا على إتمام الإتفاق بتقديم مقايضة بالجملة للتوصل الى الإتفاق. أما إذا لم يكن عرضه يقترب مما يُعد مقبولا بالنسبة لك، فإنك ستضطر على الأرجح الى تقريبه من موقفك بتقديم سلسلة من التنازلات.
ومع جميع النوايا والأغراض، فإن المدخل الأكثر عملية هو محاولة التفاوض على العرض إجمالا"دفعة واحدة".بينما تحتاط من الفشل بالاحتفاظ بشيء يمكنك التنازل عنه، وهذا التصرف يبعدك عن الاضطرار الى التنازل عن أي شيء قيّم للتوصل إلى اتفاق في حال الدخول في طريق مسدود.
ومن الأمور التي يجب الاحتياط منها عند مقايضة التنازلات أن تتأكد بأنك لا تتنازل عن شيء ذو قيمة دون الحصول على تنازل مماثل من خصمك. وهذا يمكن أن يحدث عندما يقدم الطرف الآخر تنازلا يبدو جوهريا في الظاهر، لكنه لا يساوي شيئا في الحقيقة. وهناك ثلاث أسئلة أساسية يجب أن تضعها في اعتبارك دائما حين يعرض الطرف الآخر أن يقدم لك تنازلاً وهي:
- هل يقدّم لك الطرف الآخر شيئا ذو قيمة؟ إن المظاهر يمكن أن تكون خدّاعة وخاصة على مائدة المفاوضات، حيث يحاولا كلا الطرفين الحصول على أفضل صفقة ممكنة، الأمر الذي يعني تقديم أقل قدر ممكن من التنازلات.
وعلى الجانب الآخر، فمن الممكن أن تتوقع قبل البدأ بالمفاوضات أن شكلا من أشكال التنازل قد يكون لازماً أثناء التفاوض الفعلي. ونتيجة لذلك فإن طرفي التفاوض كليهما يرجّح أن يبدأ بمواقف أبعد من أهدافهما، ثم يبدأ الطرفان في تقديم تنازلات تزحزحهما عما كان يُعد هدفاً غير واقعي المنال في المقام الأول. ولهذا فإن التنازلات المبدئية في عديد من المفاوضات لا تمثل سوى" إزالة الزوائد" التي يضعها كل طرف في عرضه.
وبافتراض أنك وضعت عرضك المبدئي بحيث يكسبك المرونة الكافية لتقديم تنازلات غير منطقية، ولا تمس صلب هدفك من التفاوض، فلن يلحق بك أي ضرر من مثل هذه المقايضة، ولكنك يمكن أن تواجه صعوبات إذا أغفلت وضع التنازلات في هدفك السابق للتفاوض، قايضت التنازلات بإهمال تاركا نفسك على قاعدة موقفك التفاوضي، بينما يتمتع خصمك بساحة رحبة للمناورة. وللوقاية من هذا الأمر ينبغي أن تتأكد من ضرورة القتال بضراوة في مقابل كل تنازل تقدمه. إن هذا لا يُعد إجراءا وقائيا ضد التورط في أي تنازل فحسب، وإنما يُعد أيضاً عاملا نفساً يعزز فكرة أنك تقدم تنازلات ثمينة.
حتى حين تصل المفاوضات الى النقطة التي يصبح من الضروري فيها تقديم تنازلات جوهرية لا يود أي من الطرفين تقديمها، يمكن أن تقع فريسة للتنازلات عديمة القيمة. وهذه التنازلات يمكن أن تأخذ أية صورة، بما في ذلك الوعود التي يستحيل أداؤها أو تلك التي يجرّمها القانون أو التشريعات الحكومية.
- أما السؤال الثاني الذي يجب أن تسأله لنفسك عندما يقدّم لك الطرف الآخر تنازلاً فهو:ماذا يطلب في المقابل؟ فنجاحك في تبادل التنازلات سوف يؤثر الى حد بعيد على جودة الصفقة التي تنتهي إليها. ومن الشراك الشائعة في هذا المجال"طلب تنازل مالي بنفس قيمة التنازل الذي يقدمه الطرف الآخر" الأمر الذي يخلق مشكلة حين يكون موقف الطرف الآخر بعيداً عن هدفك السعري.
-مثال: إذا كان مبلغ (200) ألف دولار هو السعر الأقصى الذي ستدفعه وعرض البائع اقتسام الفرق بين عرضه الأخير(300) ألف وعرضك أنت(150) ألف فإنك ستدفع بالتالي (225) ألف دولار إذا ما وافقت على اقتسام الفارق.
أما النقطة المهمة هنا فهي أن حتى ما يبدو كمقايضة متساوية القيمة يمكن أن يكون مضرا. ولهذا فعندما تفكر في نوعية التنازل الذي يطلبه الطرف الآخر، عليك أن تنظر الى الأمر من منظور هدفك التفاوضي العام، وليس كصورة تبادل تنازلات.
- أي تنازل موعود لا قيمة له دون الالتزام بتنفيذه ( سنتحدث بالتفصيل عن هذه النقطة في استراتيجية ما بعد التفاوض لاحقا). فالعديد من التنازلات تتكون من عناصر ستشكل جزءا من أداء الموضوع محل التفاوض، ولهذا فعندما يكون أي تفاوض سيشكل جزءا من أداء أي اتفاق تم التفاوض عليه، ينبغي أن تتأكد من تدون الشروط في اتفاق مكتوب، والا فقد تجد نفسك لم تحصل على ما تفاوضت من أجله.
احرص خلال كل مراحل التفاوض الممتدة حول السعر أن لا تتبع نموذجا في التنازل يسهل اقتفاؤه
" بالأمس فقط جاءني استشاري "الإيزو" ، ومعه فاتورة تتضمن أتعابه عن الجولات التفتيشية الشهرية لشركتنا يطلب فيها "1000" دولار شهريا.
قلت له: يبدو أن هناك سوء تفاهم حصل بيني وبين مندوبكم ، لقد فهمت منه أنكم تطلبون 2-3 آلاف سنويا.إن هذا المبلغ كبير جدا ولا يمكنني أن اقبله ،فأرجو أن تقبل اعتذاري.
قال على الفور: أنا راغب جدا في استمرارية التعامل معك ، وأنا عادة أطلب من الشركات الأخرى 1200 دولار . قلت لابأس ولكن ليس لدي الإمكانية لدفع مبلغ كهذا ، ولا أخفيك أن لدي بدائل مناسبة أكثر .
قال حسنا لتكن 900 قلت ليس الموضوع مئة أو مئين ، إن الهوة شاسعة بيننا .
قال لكنك تطرح رقما بعيدا جدا عن الواقع . لم أجبه، استأذنته وخرجت من مكتبي لدقائق قليلة ثم عدت لأدعوه أن يشرب قهوته .دون أن أتحدث بالموضوع ، قال لن أخسرك كزبون وسأتنازل الى 800 وهذا سعري النهائي . قلت " بعد أن اتضحت طريقة تنازله": لا أريد أن أضيع مزيدا من وقتك وأقول لك 400 فتقول لي 600 وهكذا، ما رأيك أن أعتمد لك سعر 500 دولار الآن وأحيل الى المحاسبة لاستلام دفعة عن 6 أشهر؟؟
قال أكون سعيدا عندما تكون أنت سعيد . حسنا موافق.
مع أني كنت سأوافق لو قال 550 ولكني كنت متأكد انه "سيهبط" مئة بعد مئة.
لذلك انتبه الى النقاط التالية:
- إن الطريقة التي تتبعها في تقديم التنازلات قد تتيح للطرف الآخر فرصة كشف ما يجول في عقلك.
- لا تقّدم تنازلات متساوية القيمة،مما يدفع الطرف الآخر الى مواصلة ممارسة الضغوط عليك.
- يجب أن لا يكون تنازلك الأخير مرتفع القيمة، لأنه قد يخلف شعورا عدائيا لدى الطرف الآخر.
- لا تتنازل عن مساحتك التفاوضية دفعة واحدة لمجرد أن الطرف الآخر يسعى لسماع عرض"أخير ونهائي" أو أنه يدعي أنه " لا يحب التفاوض".
- تدرج في خفض قيمة التنازل حتى توحي للطرف الآخر أنه قد حصل على أفضل صفقة ممكنة.
ممارسة الضغوط دون أن تتجاوز الحد:
سيأتي- على الأرجح- وقت أثناء المفاوضات يبدأ فيه الطرف الآخر في إلقاء العقبات، أو في المماطلة بسبب نقص في "الحسم". أو ربما يكون لديك موعد نهائي ينبغي مراعاته، والمفاوضات لا تتقدم بسرعة تكفي لخدمة أغراضك. ونظرا لهذه الأسباب و"لأسباب أخرى" قد تجد نفسك مضطرا لدفع التفاوض نحو نتيجة فورية، الأمر الذي قد يتطلب منك تكثيف المفاوضات للنقطة التي تضطر عندها للتهديد بالانصراف مالم يتم التوصل الى اتفاق.
إن مثل هذه الورطة يمكن أن تؤدي بك الى التوقف، حيث أنه من المحتمل أن يقول لك الطرف الآخر بكل بساطة " الى اللقاء" ، تاركا إياك تعاني من الإحباط بعد أن أدركت أنه ليس كل المفاوضات تنتهي بالتوصل الى اتفاق. ومع ذلك ، فمن المهم أن تعرف أن هناك عددا من الأسباب التي قد تجعل الطرف الآخر يهتم بالمماطلة أكثر من اهتمامه بالتوصل الى اتفاق، ومن بين هذه الأسباب:
1- أن المماطلة ستمكن الطرف الآخر من الحصول على اتفاق أفضل، وأوضح مثال حين يعلم الطرف الآخر أن لديك موعدا نهائيا ينبغي تحقيقه.
2- أن لاتكون للطرف الآخر مصلحة كامنة في التفاوض، ولهذا فهو يتفاوض فقط ليرى إن كان يستطيع أن يحصل منك على مكسب بالحسبان.
3- الطرف الآخر يتفاوض فقط للضرورة، وليس بنيّة التوصل الى اتفاق، على سبيل المثال: دخول دولة في مفاوضات تجارية مع دولة أخرى فقط لكي تحبط اتخاذ إجراءات انتقامية ضدها.
4- الطرف الآخر يستخدمك كلعبة تفاوضية، فربما يكون الطرف الآخر يجري مفاوضات في نفس الوقت مع أطراف أخرى، ولهذا فهو يستخدم التفاوض معك كستار من الدخان للحصول على صفقة أفضل من طرف ثالث.
5- الطرف الآخر يتردد في التوصل الى اتفاق، ومن الأمثلة الشائعة: الشركة التي تملكها أسرة واحدة، حيث يمكن أن تقوم حرب عاطفية شرسة جداً حول ما إذا كان من الواجب أن تباع الشركة أم لا، حتى ولو كانت هذه الحرب في منتصف المفاوضات.
مع أن للماطلة أسبابا متنوعة، فإنك قد تجد نفسك مضطرا الى إنهاء المفاوضات دون التوصل الى اتفاق. وبطبيعة الحال، فإذا كان لديك بدائل أخرى مرضية، فإنك لن تضطر الى الشعور بالقلق من الانسحاب. ولكن مهما كانت حاجتك لصفقة معينة، فإنك قد تصل لنقطة ينبغي عليك فيها أن تعرف ما إذا كان الإتفاق سيتم التوصل إليه أم لا.
عندما تصل بالتفاوض الى مرحلة تضطر فيها لتحدي الخصم حتى تتوصل الى اتفاق، حاول أن تفعل هذا بأسلوب يتيح لك مساحة للتراجع. كن حاسما ومستندا الى الحقائق،وذلك دون أن تغضب. فإذا ضاع منك هدوءك وقعت في براثن الإحباط، ولن تنجح إلا في قتل أية فرصة"مهما كانت بعيدة" لإنقاذ الصفقة في اللحظة الأخيرة. قل مثلا:إننا ندور في حلقة مفرغة دون أن ننجز شيئاً، هل تستطيع أن تذكر لي سببا وجيها واحدا يجعلنا نستمر في التفاوض؟. إذا كانت الإجابة هي"لا" فأجب قائلا ببساطة:حسناً اتصل بي إذا غيرت رأيك، أما إذا لم تغير رأيك، فربما تتاح لنا فرصة عمل أخرى في المستقبل.
وعلى الجانب الآخر، إذا كان الطرف الآخر يريد التعامل معك فعلا، فعلى الأرجح ستكون إجابته مشجعة وتبشر بإمكانية التوصل إلى اتفاق. فإذا حدث هذا، قدّم أي شكل من أشكال الضغط لتدفع خصمك الى تجاوز العبارات المطمئنة وذكر شيء ذي قيمة. أما إذا كانت النية هي المماطلة فحسب، فإنك بهذا تعرّض نفسك الى تأجيل الخيار الحتمي فقط " إنهاء المفاوضات".
وهناك عدة مداخل يمكنك اتخاذها حتى تحصل على التزام من الطرف الآخر ومنها:
1- طلب عرض من الطرف الآخر:" إذا كنت تريد التسوية حقاً، فلمَ لا تقدّم لي عرضا يتيح لنا التوصل الى اتفاق؟"
2- تقديم عرض من قبلك:"حسناً إنني لست مقتنعاً بأننا يمكن أن نحقق أي شيء، ولكني أريد التعامل معك، ولذا سوف أنتهز الفرصة وأقدّم لك عرضي الأخير."
3- تحديد موعد نهائي للتوصل الى اتفاق:" إنني سأبقى هنا لساعتين أخريين، ولكنني سأنصرف إذا لم نكن قد توصلنا الى اتفاق عندئذٍ ".
4- تحديد السبب الذي يؤدي الى تعثّر المفاوضات :"إذا كنت تريد الإتفاق، فمن الأفضل أن تحيطني علماً بأسباب المشكلة، والا سنظل ندور في دائرة مفرغة".
5- إشراك السلطات الأعلى في التسوية:"بصراحة أنا لست مقتنعاً بأننا يمكن أن نصل الى شيء، فأنا لا أعتقد أن لديك التزاما إدارياً بعقد هذه الصفقة، ولكني مستعد للبقاء والاستماع لمديرك .
ربما يعدّ أصعب جانب من جوانب دفع المفاوضات المتعثرة قُدماً هو العقبة العاطفية التي ترتبط بالخوف من الفشل. ويسري هذا الأمر على وجه الخصوص حين يبدو أنك ستربح من الإتفاق قدراً أكبر من الطرف الآخر. ومع الأسف، فإن العنصر العاطفي هو الذي يمكّن الطرف الآخر من اجتذابك على طول الخط، بالرغم من عدم وجود النية لديه للتوصل الى اتفاق، ولهذا فكلما شعرت بالقلق من عدم التوصل الى اتفاق، طال الوقت الذي يستغرقه التوصل الى اتفاق، أو اتخاذ قرار الانسحاب.
وفي نهاية الأمر، فإذا بدا أن هناك فشلا في التوصل الى اتفاق حتى بعد ممارسة الضغوط، فلا بد أن تنصرف دائما دون حقد أو ضغينة- على مافي هذا الأمر من صعوبة-. فأنت لا تعرف أبدا ما الذي يخبأه المستقبل، فربما تصل إليك مكالمة هاتفية بعد ساعتين من انصرافك تفيد بأن الطرف الآخر قد قبل عرضك. وحتى إذا لم يحدث هذا، فقد تصادفك فُرصٌ أخرى للتعامل معه في المستقبل، ولهذا فإن إنهاء أي تفاوض غير مثمر، بشكل غاضب، لن يفيد بشيء سوى بإرضاء لحظي للذات .
0 التعليقات:
إرسال تعليق