عندما بلغ اضطهاد الأقباط في مصر مداه علي يد الإمبراطور الروماني «دقليانوس» عام 284 (أول حكمة وأول السنة القبطية) أخذ المسيحيون في الفرار من الاضطهاد إلي بلاد النوبة حيث وجدوا فيها الأمن والأمان، وتيسر لهم نشر آرائهم، كما أخذ بعض التجار الذين يعملون بين النوبة ومصر في نشر المسيحية ببلاد النوبة، وفي نحو عام 542 أرسل الإمبراطور «جوستينان» بعثة تحت إشراف المطران «تيودور دي فيليه» كما أرسلت الإمبراطورة تيودورا بعثة برئاسة القس «ألكسندر جوليان» لنشر المسيحية ببلاد النوبة واستطاع هو وخليفته لونجينوس نشر المسيحية فعلاً هناك، وهنا يقرر أسامة عبد الوارث مدير متحف النوبة أن بلاد النوبة في العصر المسيحي انقسمت إلي مملكتين وهما : مملكة النوبة السفلي من الشلال الأول إلي الشلال الرابع وعاصمتها دنقلة، ومملكة النوبة العليا من الشلال الرابع أعالي جزير سنار وعاصمتها سوبا علي النيل الأزرق علي بعد خمسة عشر ميلاً من الخرطوم، واستطاع رجال الكنيسة أن يجعلوا من اللغة النوبية لغة كتابية بالحروف الإغريقية واستعملوها في أعمالهم الرسمية، كما ترجموا بعض أجزاء الكتاب المقدس إلي اللغة النوبية، وقد شاعت أيضا لغة الأقباط في الكنائس وزاد الاتصال بين النوبة والإسكندرية إذ كان مطران النوبة يعين من قبل بطريرك الأقباط بالإسكندرية .
- وقد صار للمملكة الشمالية في النوبة السفلي التي أثرت عليها عناصر الحضارة الأغريقية البيزنطية ثقافة ممتازة، أما مملكة النوبة العليا في علوه فلم يبق إلا النذر اليسير مما يدل علي تاريخها، ومعظم الروايات التي عرفت عنها جاءت في روايات الرحالة الذين جاسوا في أرجاء المملكة مثل المقريزي وأبي صلاح الأرمني.
وتشير دراسة الفن في العصر المسيحي المبكر إلي قيامه علي أسس من الفنون التي عمت منطقة حوض البحر المتوسط وقت ظهور المسيحية، وكان لهذه الفنون مدارس ظهرت فيها عملية امتزاج بين الطرز الفنية المحلية والفن الهلليني وإن كان للتأثير الفرعوني أثر أيضا، بالإضافة للتأثيرات الفنية الفارسية السورية وهي تأثيرات لازمت الفن القبطي، ويبدو ذلك واضحاً في:
أولاً : رسوم الأزهار والحيوان والطير
ومع زيادة هذه التأثيرات الشرقية قل الاهتمام بالموضوعات الأسطورية ونقدت الأشكال التوازن النسبي والتجسيم، واتجهت نحو التحوير والزخرفة والطابع الشعبي واستخدام الألوان الزاهية، وكانت الشواهد الدالة علي الدخول المبكر في بلاد النوبة تشير إلي استخدام بعض الرموز والأشكال وعلي شواهد القبور جانب منها في مجال التصوير الديني وقد استخدمت فيها ززخاف الصلبان المحفورة وزهور ودوائر وزخارف مضفرة ومتكسرة وأغصان العنب وعناقيده بأسلوب محور ونفذ في القرنين السادس والسابع الميلاديين.
ومع زيادة هذه التأثيرات الشرقية قل الاهتمام بالموضوعات الأسطورية ونقدت الأشكال التوازن النسبي والتجسيم، واتجهت نحو التحوير والزخرفة والطابع الشعبي واستخدام الألوان الزاهية، وكانت الشواهد الدالة علي الدخول المبكر في بلاد النوبة تشير إلي استخدام بعض الرموز والأشكال وعلي شواهد القبور جانب منها في مجال التصوير الديني وقد استخدمت فيها ززخاف الصلبان المحفورة وزهور ودوائر وزخارف مضفرة ومتكسرة وأغصان العنب وعناقيده بأسلوب محور ونفذ في القرنين السادس والسابع الميلاديين.
ثانيا : التصوير:
وإذا كنا لم نتمكن من التعرف علي الجوانب المختلفة لفن التصوير علي هذه المواد، فإن التصوير بالألوان المائية علي الجدران يمدنا بمعلومات لا حصر لها عن هذا الفن، ويشهد علي ذلك ما وصلنا من فرسكات زينت بها جدران الكنائس في بلاد النوبة علي تلك الأهمية الكبيرة التي كانت لغة التصوير الجداري في المنطقة، وهو أمر يؤكده تعدد المواقع التي ضمت كنائس مزينة بالتصاوير، وكانت كاتدرائية فرمس أهم موقع أمدنا بتصاوير عديدة زادت علي مائة وعشرين تصويره، وتليها كنيسة عبد الله نرقي.
وإذا أردنا أن نحدد أهم المواقع التي زينت كنائسها بالتصاوير الجدارية في بلاد النوبة، فإننا نلاحظ أن المعابد التي حولت أجزاء منها إلي كنائس كانت من المواقع التي حرص النوبيون علي تزيينها بالتصاوير أو تمثل صوراً دينية أو غيرها للملائكة والرسل والسيد المسيح والسيدة مريم العذراء. وعثر علي تصاوير قليلة تمثل بعض العامة من النوبيين، ويعكس هذا مدي اهتمام النوبيين بتزيين جدران كنائسهم بالتصاوير الجدارية ومدي العناية التي لقيها هذا الفن ببلاد النوبة.
ثالثا : رسومات الفخار:
- أما رسومات الفخار - والكلام مازال لأسامة عبد الوارث مدير متحف النوبة - فقد تأثر الفن المسيحي النوبي بما ورثه من حضارة العصر المروي وغيرها من التأثر السوري الفلسطيني وبطبيعة الحال ما ورثته من التاريخ المصري القديم. وضح هذا التأثير بالنسبة للزخارف الهندسية والنباتية المحفورة واستخدام الصلبان في رسوم الفخار وإلي غير ذلك من رقة الصنعة والحرق الجيد واستخدام الألوان الزاهية وتعدد الأحجام والأشكال.
- أما رسومات الفخار - والكلام مازال لأسامة عبد الوارث مدير متحف النوبة - فقد تأثر الفن المسيحي النوبي بما ورثه من حضارة العصر المروي وغيرها من التأثر السوري الفلسطيني وبطبيعة الحال ما ورثته من التاريخ المصري القديم. وضح هذا التأثير بالنسبة للزخارف الهندسية والنباتية المحفورة واستخدام الصلبان في رسوم الفخار وإلي غير ذلك من رقة الصنعة والحرق الجيد واستخدام الألوان الزاهية وتعدد الأحجام والأشكال.
رابعا : أعمال النسيج
- تميزت النوبة المسيحية كذلك بأعمال النسيج والرسوم عليها في الأشكال حيوانية ونباتية وهندسية محورة تدل علي قدرة واقتدار وتمكن الصانع من صنعته إلي غير ذلك من تقدم في صناعة المعادن البرونزية.
خامسا : المخطوطات:
تميز الفن القبطي في النوبة أيضا بتصوير المخطوطات والتي عثر عليها في مناطق النوبة الشمالية والتي دونته باللغة النوبية القديمة، ويتمثل ذلك في استخدام المداد الأحمر لكتابة العناوين، ووجود شريط من زخرفة مضفورة باللون الأسود تشبه زخرفة الصفحات الأولي في بعض المخطوطات القبطية، كما أن العدد الأكبر من الحروف المستخدمة بالخط اليوناني، وقد رسمت الأشكال بخطوط منسابة متناغمة استطاع بها المصور التعبير عن موضوعه دون تفاصيل كثيرة، كذلك عثر علي بعض التصاوير علي الورق في مقر ابريم وجزيرة «عبكته» وفي «مسرة» أيضا، غير أن قيمتها الفنية تبدو ضئيلة .
- هذا ولم تكشف أعمال التنقيب في بلاد النوبة عن اللوحات المصورة - التي يمكن اعتبارها أيقونات أو صورا دينية منقولة للاستخدام الديني، غير أن عدم العثور علي عدد كبير منها لا يعني عدم استخدامها، ومما يرجح استخدام الأيقونات في كنائس النوبة ما عثر عليه في أنقاض درج الكهنوت بكنيسة بوهن، ولم يقتصر تمثيل الأشكال الدينية في النوبة علي اللوحات المصورة فقد كانت هناك الأشكال والزخارف المحفورة في الحجر ببعض الكنائس.
سادساً : العمارة :
تأثرت الكنائس في النوبة بعلاقتها بالعمارة المسيحية المبكرة في مناطق أخري، وكان تقسيم الكنائس كالآتي:
تأثرت الكنائس في النوبة بعلاقتها بالعمارة المسيحية المبكرة في مناطق أخري، وكان تقسيم الكنائس كالآتي:
(1) كنائس ذات تخطيط بازليكي ومنها كنائس بازليكتية بها صالات في طابق علوي وأخري بها بلاطات تغطيها قباب
(2) كنائس مشيدة بداخل المعابد الوثنية.
(3) كنائس ذات تخطيط مركزي.
- وقد قسمت العمائر المسيحية للكنائس بالنوبة إلي عصور ومراحل.
الفترة الأولي : تمتد من القرن السادس إلي القرنين السابع أو الثامن الميلاديين وتنقسم إلي مرحلتين.
المرحلة الأولي : تأثرت الكنيسة فيها بالعمارة المسيحية في مصر والعمارة المسيحية في المراكز الواقعة علي شواطئ بحر إيجه في سوريا وفلسطين. ومن المعتقد أنها كانت ذات ثلاث بلاطات وهيكل تحيط به غرفتان ولها بلاطة غربية، وكانت المادة الأساسية للبناء هي الطوب اللبن والأسقف بالخشب.
المرحلة الثانية : ويلاحظ بها اتجاهان أحدهما متقدم والآخر تقليدي محافظ ويتميز الاتجاه أو الخط الأول بأن كنائسه ذات تخطيط بازليكي من ثلاث أو خمس بلاطات وبه بلاطة غربية وبواجهته برجان في بعض الأحيان.
- أما الاتجاه أو الخط الثاني فتخطيط كنائسه بازليكي وقد تعلوها الدهاليز، ويتميز هذا الاتجاه التقليدي باستمرار استخدام الطوب اللبن أو الجمع بينه وبين الأحجار الخشنة، وكانت الأبنية في الغالب بدائية جداً ومن المحتمل أن استخدام الأقبية البرحيلية قد بدأ في هذه المرحلة، مما يشير إلي أن النوبة شهدت تطوراً في أساليب البناء.
الفترة الثانية : تمتد من القرنين السابع أو الثامن إلي القرنين العاشر أو الحادي عشر الميلاديين وتنقسم إلي مرحلتين.
المرحلة الأولي: ويشتمل الاتجاه الرئيس فيها - وهو الاتجاه المتقدم - علي التخطيط المركزي والتخطيط المستطيل، والتأثيرات المعمارية في هذا الاتجاه هي التقاليد النوبية المحلية وربما كان دخول التخطيط المركزي للبلاد قد تم بمبادرة رسمية من البلاط في النوبة.
المرحلة الثانية : كان الاتجاه الرئيس فيها هو التخطيط الصليبي (تخطيط الصليب اليوناني المركب). ولا شك أن ما بلغته العمارة الكنسية في النوبة في هذه المرحلة من تطور كبير يرجع إلي حالة الرخاء التي عاشتها البلاد في ذلك الوقت، ولا تقتصر عملية التصوير في العمارة الكنسية النوبية علي التفاصيل الإنشائية المختلفة بل تمتد إلي عناصر الزخرفة والتزيين والتي شهدت بدورها مراحل تطور عديدة.
سابعاً : المستلزمات الطقسية وأدوات المذبح :
- أما أدوات وأواني المذبح التي عثر عليها في مختلف مناطق النوبة المصرية، فكان يغلب عليها طابع البساطة سواء أكان في المادة التي صنعت منها الأدوات أو في أسلوب تقنيتها.
ويعدد لنا عاطف نجيب حنا - الباحث الأثري بمعهد الدراسات القبطية بالقاهرة ووكيل متحف آثار أسوان - هذه الأدوات في :
كرسي المذبح : حيث يوجد فوق المذبح (في المنتصف) ويعني «عرش» ويستخدم لحفظ الكأس أثناء تقديس القربان.
الكأس المقدسة : صنعت الكؤوس المسيحية الأولي من الزجاج أو النحاس، وقد وجدت بعض الأواني الفخارية في ذلك العصر.
طبق القربان : طبق مسطح يوضع فيه قربان الحمل المقدس ليختار منه الكاهن أحداهما .
إناء الذخيرة المقدسة : وجد نموذج منه في فيله مصنوعاً من البرونز يحتمل أنه استخدم لهذا الغرض، وربما يكون أيضا قد استعمل لوضع الزيت المقدس.
المجمرة : إناء قد يكون بشكل الكأس أو الطبق لحرق البخور، وقد وجد بالنوبة مجامر من الفخار ذات نهاية أسطوانية الشكل، وأوان أخري برونزية استخدمت كمجامر مثلما وجد في إبريم .
إبريق الماء: يستخدم مع الطست في غسل يدي الكاهن أثناء خدمة القداس الإلهي، ووجد إبريقان من الفخار في فيله.
الأدوات الموسيقية : بالرغم من أن الألحان القبطية تعتمد علي الحنجرة، إلا أنه قد استخدمت بعض الأدوات البسيطة وأهمها «الناقوس» أو «الدف» وفي فيله وجدت قطعتان من البرونز، ربما كانت دفا، ولم يبق منها إلا القطر الداخلي المثقوب من الوسط وبه خيط ليقبض المرتل عليه بواسطته.
ثامنا : الجبانات والمقابر المسيحية:
كان لكل مستعمرة جباناتها الخاصة بها لدفن الموتي، أحيانا تلحق بها كنيسة للصلاة علي الميت، والعديد من المقابر كانت تتميز بتبطينها بالطوب اللبن أو الحجر، ولكن هناك بعض مقابر تبني فوق سطح الأرض وليست في باطنها كالسابقة، أما الشكل الأكثر شيوعاً فهو تغطية المقبرة بمصطبة من اللبن يبلغ ارتفاعها 60 سم حيث يوجد أعلاها رسم الصليب، ووجدت في المقابر العلوية مصاطب متقاطعة تعلوها القباب الصغيرة، وفي نهاية ذلك البناء من الناحية الغربية كانت توجد «مشكاوات» من الطوب اللبن أيضا حيث توجد عليها المسارج الزيتية، أما المقابر الخاصة بالإكليروس فقد تميزت بوجود الشواهد في أعلاها والتي كانت تحـمل الصيغة الجنائزية المعروفة بـ «أوشية الراقدين».
المسيحية وصناعات النوبة
كان للديانة المسيحية وانتشارها بالنوبة بالغ الأثر في إبطال تعدد المعبودات ومحو الديانة القديمة وما كانت تتطلبه من طقوس ومعتقدات لا تتفق والتعاليم السماوية من ذلك:
إلغاء عقيدة الأضحيات البشرية: والتي كانت قد انتشرت في كرمه (بالنوبة السودانية) وهي عادة دفن الأحياء كأضحيات بشرية في عصر المجموعة الثالثة وعلي الأرجح قد انتقلت منها إلي النوبة المصرية. ومع إلغاء هذه العادة انتهت معها عادة وضع الحلي والأثاث وأدوات الزينة مع الميت وربما أثر ذلك علي النشاط الفني والصناعي عامة حيث لم يعد هناك طلب متزايد عليها للإيفاء بمتطلبات طقوس الدفن وما يوضع فيها بالمقبرة من مصنوعات جديدة.
- إلغاء عقيدة التحنيط لحفظ الأجسام بعد الموت - إيمانا بأن الله قادر علي أن يحيي العظام ولو كانت رماداً ورميماً - ومن هذا المنطلق نادت المسيحية بعدم فائدة الأشياء الغالية ووضعها مع الميت في المقبرة، وما إن بطل طلب مثل هذه المشغولات في الأسواق حتي اضطر معها الصناع النوبيون إلي إبطال صنعها والاتجاه إلي ترويج سلعة جديدة اتسمت بالملامح المسيحية